الآثار الاجتماعية للإقطاع السلجوقي: الدمار والتخريب الذي حدث لمدن العراق في العهد السلجوقي: الإدارة السلجوقية وأثرها على مدن العراق: الآثار الاجتماعية للإقطاع السلجوقي:
لقد امتدت آثار السياسة الإقطاعية السلجوقية إلى الناحية الاجتماعية التي اتصفت بعدم الاستقرار، وتطرف أصحاب الإقطاعات الذين استخدموا وسائل التعسف والقسوة تجاه الفلاحين، باعتبارهم الفئة التي تحملت عبء الضرائب التي يجب أنّ يوفرها المقطع للسلطان السلجوقي بما أوكل إليه من هذه المهمة.
لقد أساء المقطعين العسكريين السلاجقة غلى الفلاحين وقاموا بعلميات استغلال وظلم إلى أقصى حد، فقد شكا فلاحي قرية الحدادية من ظلم مقطعها السلجوقي (خمار تكين)، الذي صادرهم على ألف وستمائة دينار وكسر ساق أحد الفلاحين.
وهناك رواية طريقة أوردها ابن الجوزي تبين مدى الظلم الواقع على الفلاحين، ومدى استغلالهم الذي جلب الخراب، وتدهور حالة الفلاحين المعاشية، وشيوع ظاهرة الفقر بينهم بسبب السياسة الإقطاعية الجائرة، فقد شكى فلاحي السواد إلى جكرمش وإلى الموصل والجزيرة من ظلم المقطعين وتعسفهم، فقام بعمل وليمة دعى إليها أصحاب تلك الإقطاعات فقدم لهم لحماً بدون خبز، فاستغربوا من هذا الفعل وسألوه عن السبب، فأجابهم بقول: (إنما الخبز يجيء من الزرع والزرع إنما يكن بعمارة السواد وقد اضررتم باهل اقطاعكم).
لقد أدت هذه السياسة إلى الدمار والتخريب لكثير من مدن العراق والشام، والتي اتسمت بكثرة القلاقل والحروب، وتشير المصادر إلى أعمال العساكر السلجوقية، ودورها في إرباك الحياة الاجتماعية للناس، وشيوع ظواهر انعكست على معيشتهم اليومية، فكانت أعمال نهب دور الناس وتخريبها ظاهرة ظلت ملازمة لتلك الفترة من الاحتلال وعانت منها أقاليم الدولة العربية الإسلامية.
إنَّ تتبع تلك الظواهر ضرورياً لبيان حقيقة الوضع القاتم، يصف الراوندي أوضاع البلاد الواقعة تحت سيطرة الإقطاعيين السلاجقة ومدى تدهورها يقول (إنَّ كل من الأتراك كان يستولي على ولاية من الولايات، ولم يكن يعرف واحد شيئاً عن سيرة أبائه وأسلافه يفعل في حكمه كل ما يريد حتى بلغت الحال نحواً خطيراً من الشر والوبال).
الدمار والتخريب الذي حدث لمدن العراق في العهد السلجوقي:
لقد تعرضت كثير من مدن العراق إلى التخريب والاندثار نهائياً، لقد كانت العساكر السلجوقية مصدر قلق وإرباك لحياة الناس الاجتماعية، لِمَا وصلت عساكر السلطان طغرل بك إلى طريق خراسان هرب الناس ودخلوا إلى الحريم الطاهري (واشتد بهم الخوف وامتلأت قلوبهم رعباً لشدة بطشه).
وعندما دخلت قواته بغداد اصطدموا مع الأهالي وقتلوا جمع كبير منهم، ونهبت تلك العساكر درب يحيي وسليم، ووصل النهب إلى أطراف نهر معلى واشتد الخوف على الناس. وفي سنة (448 هجري)، عم الضرر على أهل بغداد بسبب نزول العساكر السلجوقية في دور الناس وفرضت الأتاوات عليهم. وهددوا حياة الناس واستمر نزولهم في مساكن الناس ثلاثة عشر شهر، وعندما طولب السلطان بنهي عساكره عن تلك الأفعال قال: (إنني غير قادر على تهذيب العساكر لكثرتهم).
وصف سبط ابن الجوزي هذا الحال بقوله: (وخربت بلاد العراق وضاعت الأمة وهلكت الدنيا). حتى أنَّ أبا أحمد عبد الواحد بن الخضر رفض أمر تعيينه عميداً للعراق مُعللاً سبب ذلك، بخراب مدن العراق والقرى الزراعية، وعانت مدينة سنجار من هذه الأفعال التي عمها الخراب من قبل العساكر السلجوقية الذين كانوا مرتزقة يخيفون الناس، وأنهم متمادون في الفساد ونهب القرى والمدن. ويصف البنداري حال سنجار لِمَا وصلها السلطان طغرل بك (فسار إلى سنجار واجتاحها وسلب أرواحها).
وقد تعرض أهالي المحال في بغداد إلى شتى الوسائل والأساليب من قتل وتعذيب، ففي سنة (451 هجري)، تعرض أهل محلة باب البصرة ونهر طابق إلى أعمال سرقة، ونهبت أموالهم وأخذوا وعوقبوا، واستخرجت أموالهم بأنواع العذاب.
ولم يسلم الناس حتى على بيوتهم التي هُدِمت فشردت العوائل فقي سنة (455 هجري)، نزلت العساكر في دور الناس بالجانب الغربي وطردوهم منها وهدموها، واستولوا على سقوفها وبيعت أخشابها في هذه الأعمال.
وعملت تلك العساكر على إرباك حياة الناس المعاشية من خلال محاربتهم في أرزاقهم، فقد تعرض أحد باعة الفواكه إلى الضرب من قبل جندي سلجوقي، وكادت تصبح فتنة لولا تدخل الخلافة بالأمر.
إنَّ طغيان وقوة تلك العساكر قد أثرت على وضع السكان الاجتماعي، فقد عانى السكان من الابتزازات المالية من قِبَل الأمراء السلاجقة، ففي سنة (448 هجري)، قرر على مدينة (شهرابان)، بدفع ثلاثة ألاف دينار. وحمل إلى السلطان بركياروق مبلغ خمسين ألف دينار جمعت له من أهالي بغداد (فعم الضرر وتمنى أهل البلد زوالهم عنهم، وتعرضت بيوت الناس في واسط إلى السرقة حتى أبوابها ومحتوياتها لم تسلم من أيديهم وفعلوا مالم يفعله الروم، وحدث الشيء نفسه في مدينة الحلة).
وفي سنة (496 هجري)، تعرض أهل بغداد إلى القتل والظلم من قَِبَل (ينال بن أنوشتكين)، الذي لم يكف عن هذه الأعمال إلا بعد أخذ الأموال من الناس وإجبارهم على دفع الأتاوات. إنَّ القتل والنهب هي إحدى المرتكزات الأساسية لسياسة الأمراء السلاجقة حتى يدوم حكمهم وتحكمهم وانبساطهم.
إنَّ هذه الأعمال عملت على استنزاف موارد الناس المعاشية ونتج عنها حدوث المجاعات المدمرة، فارتفاع الأسعار ونهب أموالهم كانت إحدى الأسباب الرئيسية الحدوث تلك المجاعات، وقد أصبحت هذه الظاهرة أكثر تكراراً في فترة الاحتلال السلجوقي، فقد تعرض أهل بغداد وواسط إلى المجاعة ومات أغلب الناس على الطرقات.
وبسبب إرهاق الناس بدفع الأتاوات حدث مجاعة سنة (496 هجري)، ومات الناس جوعاً سنة (511 هجري)، بسبب حالة الغلاء. وتدهورت الحالة المعاشية لسكان مدينة البصرة، فهذا الشاعر الدكيشي يشكو من الفقر والجوع.
وقد عبر عن ذلك بأبيات شعرية بقوله: (كساد الدر من لفظي كساني ثياب الذل من نسج المحيفج وسوء الحظ أحوجني وفقري وحرماني إلى كنس الكنيف). ويصف لنا الحريري نتائج هذه السياسة وانعكاسها على الوضع العام لحياة الناس بقوله (أحوال الأعمال منقلبة إلى الاختلال والضامن كل يوم في كروب والرعية بين مرعوب ومنكوب ومطامع متسعة والقدرة على حسم هذه المواد ممتنعة).
ويعطينا الحريري وصف آخر لمدينة البصرة محذراً من سوء العاقبة من جراء هذه السياسة وما سوف تؤدي إلى خراب المدينة يقول: (ما فجأ البصرة من الفتك والقهر والنهب والأسر إلى ما آمنوا به من الشتات و افتضاح الخفرات وإحراق المساكن والخانات وانتشار الفساد إلى قرى السواد لرأى منظر يحرق الأكباد ويبكي العين الجماد وقد أشرفت البصرة على العفاء واللحاق بالصحراء، إذ كان توالي الأحداث في هذه السنين ما يدمر عمر البلاد ولم يعهد مثله في سالف الزمان).
وفي سنة (520 هجري)، نزلت العساكر بيوت الناس ولحقهم ضرر عظيم وكثر الزحام على المعاير والسفن وبلغت أُجرة العبور ستة دنانير (وتأذوا غاية التأذي)، ونهب أموالهم وأثاثهم (وانقلبت بغداد بالصراخ حتى كأن الدنيا قد زلزلت).
إنَّ الاحتلال السلجوقي وما تبيعه من سياسة جائرة تجاه السكان اتخذ صورة أخرى على شكل فرض حصار على المدن، وقد شهدت مدينة بغداد خلال هذه الفترة حصارات، والتي كانت وسيلة من وسائل الأمراء السلاجقة في إرهاق الناس وسلب أموالهم، ففي سنة (530 هجري)، حاصر السلطان مسعود مدينة بغداد لمدة ستين يوماً قامت عساكره بنهب المحال وسرقة أموال الناس الذين لجأ بعضهم إلى الحريم الطاهري.
وفي سنة (543 هجري)، حاصر مجموعة من الأمراء السلاجقة مدينة بغداد ونزلوا بالجانب الغربي منها واشتبكوا مع العامة واستمر عدة أيام قُتِل فيها أعداد كثيرة من أهل بغداد (ولم يبقوا على صغير ولا كبير، فأُصيب أهل بغداد بما لم يصيبوا بمثله، حتى أنَّ أغلب الجثث بقيت في الشوارع.
وفي عام (551 هجري)، حدث الحصار الثالث من قِبَل السلطان محمد ويصف ابن الأثير الأوضاع في بغداد وحال الناس فيها (اضطراب الناس في بغداد ونودي أنّ لا يُقيم أحد في الجانب الغربي، فأجفل الناس، وأهل السواد، ونقلت الأموال إلى الحريم. وتعرضت محال نهر القلائين والتوته وشارع ابن رزق الله وباب الميدان وقطفتا إلى النهب والتخريب. ونتيجة هذا الحصار كانت قد غلت الأسعار وحديث المجاعة).
الإدارة السلجوقية وأثرها على مدن العراق:
إنَّ سوء الإدارة السلجوقية قد خلفت القلاقل والغلاء والقحط وأصبح الناس في ضيق من العيش والضنك والتي شملت السواد الأعظم من الناس، وهناك نص شعري يُعبر عن ألم الشاعر من تلك الأوضاع والنص بالفارسية يقول فيه: (إنَّ الحقير والعظيم والشريف والوضيع كلهم حيارى متألمون).
وقد شهدت هذه الفترة تخريب العديد من محال بغداد، أما لبناء دور السلاطين السلاجقة على حساب تلك المحال أو بسبب هجرة سكانها للأسباب المذكورة آنفاً، فقد أمر السلطان طغرل بك ببناء سور عريض حول داره فخربت الدور والمحال والأسواق المجاورة لها بالجانب الشرقي لتدخل ضمن السور وقلعت الأخشاب من الجانب الغربي وحملت إليه.
وكانت دار السلطنة السلجوقية قد بُنِيَت على انقاض دور الناس فاستعمل في عمارتها أهل بغداد وفي سنة (515 هجري)، احترقت هذا الدار يقول سبط ابن الجوزي معللاً سبب هذا الحريق (جَرَمَ أنَّ مالها كانت إلى الحريق والخراب وقد رأينا في المشاهد أنَّ كُل دار بُنِيَت على وجه الاغتصاب يكون مالها إلى الأندراس. وعندما بنى الوزير السميرمي داره خرب محلة التوتة ونقل أخشابها وحبس أهل المحلة لمّا استغاثوا وغرمهم الأموال).
لقد شهدت بغداد في هذه الفترة انحساراً ملحوظاً في مساحتها من خلال اندثار العديد من محلاتها. وباعتبار أنَّ مدينة عاصمة الخلافة العباسية فإنها كانت العديد من المدن التابعة لها، فقد ذكر المقدسي (386 هجري)، تابعة إدارياً لبغداد في حين لم يذكر الإدريسي (560 هجري)، سوى عشرة مدن منها.
إنَّ هذا التدهور كان بسبب سوء السلطة السلجوقية، وسيادة ظاهرة الفقرة بين الناس والذي أدى إلى تناقص عدد السكان، وهجرتهم إلى مناطق متفرقة، يصف (الخطيب البغداد)، بغداد في أيامه بقوله: (أكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد، ثم حدثت الفتنة وتتابعت على أهلها المحن فخرب عمرانها وانتقل أهل قطانها).
وكان وصف ابن جبير في رحلة الذي زار بغداد سنة (580 هجري)، لأوضاع بغداد وما وصلت إليه من تخريب في ظل الاحتلال يقول عن مدينة بغداد: (هذه المدينة العتيقة وإن لم تزل حاضرة الخلافة العباسية، وقد ذهب أكثر رسمها ولم يبق إلا شهير اسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل أنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطل الدارس والأثر الطامس). ويتحدث عن الجانب الغربي الذي وصفه بأنه خراب شمله واستولى عليه.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.